فصل: مسألة حلف ألا يعين بطعام ولا بزيت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة دخل أرض الحرب بسويق له بلا لتات فلته بإدام من المغانم:

قيل لأصبغ: فلو أن رجلا دخل أرض الحرب بسويق له بلا لتات، فلته بإدام من المغانم أو ثوبا، فصبغه بصبغ من المغانم، ثم خرج به، ما ترى في ذلك؟ قال أصبغ: إن كان الذي زاد فيه اللت والصبغ الزيادة التافهة اليسيرة، فلا أرى عليه تمخيا منه بمنزلة لو خرج بالإدام نفسه والصبغ، وإن كان زاد فيه زيادة ذات بال، وقد كان شريكا بقيمة ثوبه أو سويقه بلا صباغ ولا لت، وتمخى من سائر ذلك.
قال محمد بن أحمد: وهذا بين كما قال؛ لأن الصباغ واللتات عين قائمة في جميع الأحكام من المرابحة والعيوب والاستحقاق والسرقة وغير ذلك، فوجب أن يكون في هذه المسألة كذلك إلا أن في مساواته في اليسير بين الصبغ والإدام نظرا؛ لأن له أن يخرج من الإدام يسيرا، وليس له أن يخرج من الصبغ بماله ثمن وإن قل؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شراك وشراكان من نار»، فالصواب أن عليه أن يتمخى الصبغ من قليله وكثيره.

.مسألة النصراني يشتري النصراني ثم يخرج العبد إلى أرض العدو فيسلم:

من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم مسألة قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن النصراني يشتري النصراني، ثم يخرج العبد إلى أرض العدو فيسلم ثمة، ثم يأسره المسلمون، قال: هو حر، ولا يقع في المقاسم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة خارجة عن أصل المذهب في أن أهل الذمة وأهل الإسلام سواء فيما حازه أهل الحرب من أموالهم، بسبي منهم أو إباق من العبيد إليهم، ثم سباه المسلمون بعد ذلك أنهم أحق به إن أدركوه قبل القسم بغير ثمن، وإن لم يدركوه حتى قسم كان لهم أن يأخذوه بالثمن الذي وقع به في المقاسم إن شاءوا، والذي يأتي فيها علم المذهب أنه لا يكون إذا سبي حرا، ويكون سيده أحق به قبل القسم بغير ثمن وبعده بالثمن إن شاء، ويباع عليه لإسلامه؛ لأن إسلام عبد الذمي لا يسقط ملك سيده عنه بإجماع، وكذلك إباقه إلى بلد الحرب لا يسقط ملك سيده عنه على المذهب، فوجب أن يكون له إذا سبي أسلم أو لم يسلم، ويباع عليه إن أسلم، وإنما يصح جوابه فيها على مذهب من يقول: إن أهل الحرب يملكون على المسلمين، وأهل الذمة ما صار إليهم من أموالهم، فلا يكون لهم إليها سبيل وإن أدركوا قبل القسم، ولا يكون العبد حرا إذا أسلم في بلد الحرب فسباه المسلمون، أو خرج إليهم مسلما إلا إذا كان سيده حربيا كعبيد أهل الطائف الذين أسلموا أو خرجوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعتقهم بخروجهم إليه، وإنما كان يصح جوابه لو خرج النصراني بالنصراني الذي اشترى إلى بلد الحرب ناقضا للعهد، فأسلم العبد في بلد الحرب، ثم غنمه المسلمون، ولو قدم السيد الحربي قبله بأمان فأسلم أو لم يسلم، ثم سبى العبد بعد ذلك، لتخرج على الاختلاف الواقع في المدونة وغيرها في تغليب حكم الدار، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم المكاتب، من سماع سحنون، وفي سماع سحنون، ويأتي أيضا في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وبالله التوفيق.

.مسألة يجد الغنيمة في أرض العدو فيتركها ولا يأخذها:

وعن الرجل يجد الغنيمة في أرض العدو فيتركها ولا يأخذها كراهية أن تتعب ذاته بحملها إلى العسكر. فقال: أراه في سعة من ذلك، ولا يلزمه حملها إلا أن يكون. شيئا نفيسا من متاع أو جوهر، فلا أرى أن يتركه.
قال محمد بن رشد: أوجب عليه فيما كان شيئا نفيسا من متاع أو جوهر لا مؤنة عليه في حمله، إلى الذي تجمع عنده الغنائم في العسكر أن يحمله ولا يتركه يضيع، بخلاف اللقطة التي اختلف في الأفضل من أخذها، أو تركها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن تركها أفضل رجاء أن يرجع صاحبها فيجدها. والثاني: أن أخذها أفضل مخافة أن يتركها فيجدها من يذهب بها ولا يعرفها. والثالث: الفرق بين اليسير والكثير، والأول مذهب أبي عمران، والأخيران لمالك؛ لأن اللقطة إن أخذها لزمه تعريفها، وربما لم يجد صاحبها، وإن تركها ربما رجع عنها صاحبها فوجدها حيث سقطت منه، وهذا إن تركه ضاع، وإن أخذه لم يلزمه؛ لأنه يبرأ بدفعه إلى صاحب الغنائم، فهو كمن وجد لقطة يعلم صاحبها، ويوقن أنه إن تركها، ولم يأخذها؛ ضاعت، وبالله التوفيق.

.مسألة سبى رومي جارية ممن بيننا وبينه هدنة هل يجوز شرائها ووطئها:

قال ابن القاسم: لو أن روميا أهدى إلي ابنته، لم يكن به بأس أن أطأها أو غير ابنته، ولو سبى رومي جارية ممن بيننا وبينه هدنة مثل النوبة وما أشبههم؛ لم ينبغ أن أشتريها ولا أطأها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في التجارة إلى أرض الحرب من المدونة سواء، ومثل ما قد مضى لأشهب في سماع أصبغ، في جواز الارتهان، وليس ما مضى في سماع يحيى، بخلاف لشيء من ذلك على ما بيناه فيه.

.مسألة خرجوا إلى العدو فلما التقوا دفع علج منهم إلى رجل من المسلمين دنانير:

وعن قوم خرجوا إلى العدو، فلما التقوا دفع علج منهم إلى رجل من المسلمين دنانير، قال: هو أحق بها، قيل له: وإن دفعها إلى وال؟ قال: أما الوالي فلا أدري كأنه يراها فيئا للمسلمين.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يدخل أرض الإسلام ومعه رقيق مسلم أيباعون عليه فيعطى أثمانهم:

وعن الرجل من الروم يدخل أرض الإسلام بصلح في تجارة أو غير ذلك، فيدخل معه رقيقا له مسلمين، أيباعون عليه فيعطى أثمانهم، أم يعتقون، أم يقرون بيده يخرج بهم إلى أرضه، أم كيف يفعل بهم؟ قال: لا يتركون وذلك، ويمنعون من ذلك أشد المنع، يتقدم إليهم في النهي عن ذلك، فإن عادوا عوقبوا.
قال محمد بن أحمد: قد مضى في سماع سحنون أن لهم أن يرجعوا بهم إن شاءوا، ومثله في سماع سحنون من كتاب التجارة إلى أرض الحرب أيضا، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم، وقد مضى القول عليه في موضعين من سماع سحنون، وفي سماع من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، من قول ابن القاسم ما يعارض المعلوم من مذهبه في ذلك، وسنبين ذلك إذا مررنا به إن شاء الله.

.مسألة اشترى امرأة من السبي فحملت منه ثم جاء أهلها يريدون لها الفداء:

قال ابن القاسم في رجل اشترى المرأة من السبي، أسرت فحملت منه، ثم جاء أهلها يريدون لها الفداء، أترى للسيد أن يفعل؟
قال: لا، قيل له: فلو أعتقها؟ قال: فلا أرى بأسا أن يدفعها في الفداء بعد أن يستبرئ رحمها من مائه. قيل له: فلو كانت قد ولدت منه؟ قال: نعم.
قال محمد بن أحمد: أما إذا كانت حاملا منه، فلا إشكال في أنه لا يجوز أن يدفعها في فداء مسلم، ولا في مال يأخذه؛ لأن ولده منها في بلد الحرب يتنصر، أو ينصر إن فعل ذلك، وأما إذا أعتقها أو ولدها، فإنما يجوز أن يدفعها في فداء مسلم لا في مال يأخذه برضاهما على أن لا يسترقا، قال ذلك ابن أبي زيد قياسا على قول سحنون في إجازة دفع الذمي برضاه في فداء مسلم على ألا يسترق، وبالله التوفيق.

.مسألة الأسير هل يجوز قضاؤه في ماله إذا قامت على قوله البينة:

وسئل ابن القاسم عن الأسير، هل يجوز قضاؤه في ماله إذا قامت على قوله البينة، أم لا يكون ذلك إلا في ثلث ماله، كيف الأمر في ذلك؟ قال: قال مالك: يجوز صدقته وعتق من رأس المال، قال مالك: وتجوز وصيته في ثلثه إذا قامت على ذلك بينة، وإنما تجوز صدقته وعتقه في المرض إذا قامت على ذلك بينة.
قال محمد بن رشد: إنما تجوز صدقته وعتقه من رأس ماله، إذا كان قد طال مكثه عندهم، وأمن من القتل، وأما إن كان ذلك في فور أسره وبقرب ذلك، فهو من الثلث كالذي يحبس للقتل، قاله ابن حبيب في الواضحة، وهو صحيح مفسر لقول ابن القاسم، وبالله التوفيق، حسبي الله ونعم الوكيل.
تم كتاب الجهاد بحمد الله وحسن عونه، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

.كتاب النذور الأول:

.مسألة المملوك يتقاضى من غريم سيده بدون إذنه ليقضي دينا عليه:

من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس مسألة أخبرنا ابن عمر قال: أخبرنا محمد التابعي قال: أخبرنا سحنون قال: أخبرنا ابن القاسم قال: سئل مالك عن مملوك لرجل حلف لغريم له، ليقضينه حقه إلى عشرة أيام، فلما مضت تسعة أيام ولم يقضه حقه خاف الحنث، فعمد إلى غريم لسيده فتقاضى منه بغير إذن سيده، فقضى غريمه، فلما علم السيد بعد أنكر ذلك، فأخذ من الغريم ما قضاه الغلام بغير إذن سيده، هل تراه حانثا؟ قال: أراه حانثا، وكذلك لو سرقها فقضاه إياها كان حانثا، قيل له: يا أبا عبد الله، أرأيت لو أجاز السيد بعد العشرة أيام؟ قال مالك: ما أرى من أمر بين، قال ابن القاسم في هذا أراه حانثا حين لم يجزه له قبل أن يقضي الأجل لأنه لو شاء أن يأخذ ما أعطاه عبده من ماله أخذه، فإنما وقع القضاء بعد الأجل.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة لا يخلو الأمر فيها من وجهين؛ أحدهما: أن يعلم السيد بذلك قبل العشرة الأيام. والثاني: أن لا يعلم بذلك إلا بعد العشرة الأيام، فأما إذا علم بذلك قبل العشرة الأيام، فإن أجاز ذلك بر العبد، وإن لم يجز وأخذ ديناره حنث العبد، إلا أن يقضي غريمه ثانية قبل العشرة الأيام، ولا اختلاف في هذا الوجه.
وأما إذا لم يعلم بذلك إلا بعد العشرة الأيام، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول ابن القاسم هاهنا: أن العبد حانث، أجاز السيد الأمر أو لم يجزه، وأخذ ديناره إن لم يجزه، انتقض القضاء، فكأنه لم يكن، وإن أجازه فكان القضاء إنما وقع يوم الإجازة إذ كان له ألا يجيزه، وهو ظاهر ما في المدونة إذا استحق مستحق ما قضى، إذ لم يفرق فيها بين أن يأخذ المستحق ما استحق أو لا يأخذ، وظاهر ما في نوازل سحنون في مسألة السوار، وعلى قياس هذا يأتي قول أشهب في العبد يباع بيعا فاسدا قبل يوم الفطر، فيمضي يوم الفطر وهو بيد المشتري لم يفت أن الفطرة فيه على البائع، وإن فات بعد يوم الفطر، فلزمت المشتري فيه القيمة ولم يرد إليه. والثاني: قول ابن كنانة: إنه إن أجاز السيد القضاء بر العبد في يمينه، وإن لم يجز وأخذ ديناره حنث؛ لأنه إن رد وأخذ ديناره انتقض القضاء، وإن أجازه فكأنه لم يزل جائزا من يوم وقوعه على أصولهم فيمن اغتصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري، ثم استحقه سيده أنه إن أجاز البيع نفذ عتق المشتري فيه؛ لأن البيع كأنه لم يزل جائزا من يوم وقوعه، وإن لم يجزه وأخذ عبده انتقض العتق، ولهذا المعنى توقف مالك في الإجازة فقال: ما أرى من أمر بين، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن الماجشون في العبد يباع قبل يوم الفطر بيعا فاسدا، فيمضي يوم الفطر، وهو بيد المشتري لم يفت أنه إن نقض البيع فيه ففطرته على البائع، وإن لم ينقض لفواته عند المشتري، وإن بعد يوم الفطر ففطرته على المشتري.
والقول الثالث: أنه لا حنث على العبد أجاز السيد القضاء أو لم يجزه وأخذ ديناره؛ لأن الأجل ما مضى، إلا وقد اقتضى الغريم حقه وذلك في ضمانه، ولو تلف كانت مصيبته منه، فوجب أن يبر العبد بذلك، وإن لم يجز السيد ذلك وأخذ ديناره، وهو قول أشهب في سماع أصبغ بعد هذا في الذي عليه لرجل طعام من ابتياع إلى أجل فيحلف ليقضينه إياه قبل الأجل، فيقضيه طعاما ابتاعه قبل أن يستوفيه، فلا يعلم ذلك إلا بعد الأجل أن القضاء يفسخ ويبر الحالف بيمينه بذلك القضاء الفاسد، وإن نقض لكون المحلوف عليه ضامنا لما قبض، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في مسألة العبد يباع فاسدا، فيمضي يوم الفطر، وهو عند المشتري أن فطرته عليه؛ لأن ضمانه منه، ونفقته عليه، وإن رده على البائع بعد يوم الفطر.
وقول ابن القاسم أولى الأقوال بالصواب؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا قامت البينة على الدينار بعينه عند الغريم أنه هو الذي سرقه العبد أو اقتضاه من غريم سيده فقضاه إياه على القول بأن الدينار يتعين، وأما إذا لم تقم عليه بينة، أو قامت عليه بينة على القول بأن الدينار لا يتعين، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة، فلا يكون للسيد على غريم العبد سبيل، ويرجع على عبده بالدينار، وإن كان وكيلا له على الاقتضاء أو على غريمه إن كان العبد متعديا في الاقتضاء، ويبر العبد في يمينه، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف أن لا ينفع فلانا بشيء هل يأخذ من صدقته:

وسئل مالك عن رجل حلف أن لا ينفع فلانا بشيء، والذي حلف وصي لرجل قد أوصى أن يقسم على المساكين أوسقا من ماله لفلان وفلان، والذي حلف عليه أن لا ينفعه منهم، هل ترى أن يجري تلك الصدقة على يديه، كالذي أوصى به صاحبه، فيكون هذا قد انتفع بذلك مما جرى على يد الحالف الذي حلف ألا ينفعه؟ قال: ذلك إلى نيته، وإن كان إنما نوى ألا ينفعه بشيء هو له بعينه، أو يعطيه إياه، ولعله أن يكون قد كانت تكون إليه أشياء غير واحدة من صنائع المعروف، فإن كانت هذه نيته، فليس عليه بأس أن يدفع إليه دينا له قبله أو ميراثا أو وصية، أو ما كان مما لا يكون من مال الحالف، قال ابن القاسم: وإن لم تكن له نية، فلا يجري عليه شيئا، وهو وجه ما سمعت من مالك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه عم جميع الوجوه والمنافع كانت من ماله أو من مال غيره بحلفه ألا ينفعه بشيء، فوجب أن يحنث بإجراء تلك الصدقة عليه؛ لأنها داخلة تحت عموم لفظه، إلا أن تكون له نية في أنه إنما أراد ألا ينفعه بما له، فتكون له نيته التي نوى، ويصدق فيها، وإن لم تكن كانت إليه منه قبل ذلك صنيعة من صنائع المعروف، إذ لم يجعل ذلك شرطا في قبول نيته، وإنما قال: ولعله أن يكون قد كانت إليه منه شيئا من صنائع المعروف، فيكون ذلك بينا في قبول نيته، وهذا إذا كانت يمينه التي حلف بها مما لا يقضى عليه بها، وأما إن كانت يمينه التي حلف بها بعتق أو طلاق وما أشبه ذلك مما يقضى به عليه، فلا ينوى، ويحكم عليه بالعتق أو الطلاق إلا أن يكون قد كانت إليه منه قبل ذلك أشياء من صنائع المعروف، فينوى فيما ادعاه مع يمينه هذا الذي يأتي في هذا على أصولهم، إذ من قولهم: إن من ادعى نية مخالفة لظاهر لفظه فيما يحكم به عليه لا يصدق فيها إلا بسبب يدل على صدق قوله.
وقال مالك فيمن سيم بسلعة له، فأعطي بها عشرة، فقال: والله ما قامت علي بعشرة، وقد قامت عليه بدون العشرة، فلا ينبغي إلا أن يكون ينوي الكراء والمؤنة، فذلك له مخرج وإن لم يسمه.
قال محمد بن رشد: الأصل في معرفة ما يحتاج فيه من ذلك إلى النية مما لا يحتاج فيه إلى النية أن ما كان في السلعة عينا قائمة يحسب في المرابحة، ويحسب له ربح كالصبغ والكمد والفتل، وما أشبه ذلك، فهذا لا يحنث إن قامت عليه السلعة دون أن يحسب هذه الأشياء بدون العشرة إذا كانت قد قامت عليه بها بفوق العشرة، وإن لم تكن له نية، وأما ما سوى ذلك مما يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب له ربح، أو لا يحسب رأسا فهو حانث، إلا أن ينويه، ولو كانت يمينه بغير الله مما يقضى به عليه؛ لوجب على أصولهم ألا ينوى إلا فيما يحسب ولا يحسب له ربح، إلا فيما لا يحسب رأسا كنفقة نفسه، وكراء ركوبه، وما أشبه ذلك.

.مسألة حلف ألا يدخل بيتا بليل فدخل بعد الفجر:

قال مالك: من حلف ألا يدخل بيتا بليل، فدخل بعد الفجر لم يحنث، وإن كان قد قال نهارا فقد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النهار في الشرع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»، فبين بذلك أن طلوع الفجر آخر الليل وأول النهار، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم»، فبين بذلك أيضا أن غروب الشمس آخر النهار وأول الليل، فوجب أن لا يحنث من حلف ألا يدخل بيتا بليل إذا دخله بعد الفجر، وألا يحنث من حلف ألا يدخل بيتا بنهار إذا دخله بعد غروب الشمس، ولولا وجوب اتباع ما أحكمه الشرع من هذا؛ لوجب أن يحنث الذي يحلف ألا يدخل بيتا بليل إذا دخله بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، كما يحنث إذا دخله بعد غروب الشمس وقبل مغيب الشفق؛ لأن الذي يوجبه النظر أن يكون النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، والليل من غروبها إلى طلوعها، إلا أن ينوي ألا يدخله في ظلام الليل، أو يكون ليمينه بساط يدل على ذلك، فيحنث إن دخله بعد الفجر أو قبل مغيب الشفق على معنى مما لأصبغ في نوازله، من كتاب الأيمان بالطلاق، في الذي يحلف: لتدخلن عليه امرأته ليلة الجمعة، فدخلت عليه بعد الفجر من تلك الليلة، أنه لا حنث عليه إن كانت عادة الناس في تلك البلدة إدخال النساء على أزواجهن بعد طلوع الفجر، وبالله التوفيق.

.مسألة حكم ما أوجب العبد على نفسه من النذر والحدود:

وقال مالك في العبد يجعل على نفسه الشيء في سبيل الله، ثم يجيء العلم أنه حر حين جعل ذلك على نفسه أن ذلك عليه، وكذلك الحدود.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما أوجب العبد على نفسه من النذر والحدود يجب أن يلزمه، ولا يسقط عنه منها شيء يظنه أنها لا تجب عليه؛ لأنه لم يعتق، كما يجب على الحر البالغ ما أوجب على نفسه من ذلك، ولا يسقط عنه شيء منه، يظنه أنها لا تجب عليه؛ لأنه لم يبلغ، وبالله التوفيق.

.مسألة قال لشيء من ماله دابة أو عبد أهديك:

وقال مالك: من قال لشيء من ماله دابة أو عبد أهديك، فهو مخير في قيمته أو ثمنه ما بلغ يجعله في هدي.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة فيمن أهدى عبده: إنه يخرج بثمنه هدايا، فذهب بعض أهل النظر إلى أن ذلك خلاف لهذه الرواية، إذ لم يقل: إنه يخرج بثمنه أو بقيمته هدايا كما قال في هذه الرواية، وخلاف لما في رسم البز، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصدقات والهبات، في المرأة التي جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها الله من مرض، أنه كره لها أن تحبسهما وتخرج قيمتهما.
وقال سحنون: إنما كره من أجل الرجوع في الصدقة؛ وليس ذلك عندي على ما ذهب إليه، بل هذه الرواية مفسرة لما في المدونة، وما في رسم البز من كتاب الصدقات والهبات، مسألة أخرى فلا اختلاف في شيء من ذلك، فإذا أهدى الرجل ما أهدى من الإبل والبقر أو الغنم، أو جعل في سبيل الله ما ينتفع بعينه فيه من الخيل والسلاح، فلا اختلاف في أنه لا يجوز له أن يمسكه، ويخرج قيمته؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لعمر بن الخطاب في الفرس كان حمل عليه في سبيل الله، ثم أراد ابتياعه: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك»؛ لأن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه، وإذا أهدى ما لا يمكن أن يهدى من ثوب أو عبد، فجائز أن يمسكه ويخرج قيمته إذا لم يتعين في عينه حق الله، وإنما يجب على من أهداه إخراج العوض عنه، وإذا جعل في السبيل ما لا ينتفع فيه بعينه، ولابد من بيعه؛ لينفق ثمنه في السبيل كالخلخالين وشبههما، فيكره له إخراج قيمة ذلك وإمساكه من ناحية الرجوع في الصدقة؛ لإمكان إخراجه بعينه في السبيل، وليس ذلك بحرام، إذ لا ينتفع بالذي أعطيه في السبيل بعينه، فعلى هذه الثلاثة الأقسام ينقسم هذا الباب.

.مسألة حلف ألا يقضي الحق الذي عليه حتى يسجنه فيه الطالب:

ومن كتاب أوله سلعة سماها:
مسألة وعن رجل كان له على رجل حق فمطله بذلك، فقال الذي عليه الحق: عليه عتق ما يملك إن قضاه حتى يسجن له ثم يسجن، يريد بذلك أياما، وحلف الآخر بالعتق إن أنظره إلا أن ينظره السلطان، فارتفع إلى السلطان، فضرب له الأجل أياما، فلما كان في آخر الأجل تغيب عنه، فقال له عمه: أنا أقضيك حقك عنه، أفترى عليه شيئا؟ قال: ما أرى بذلك بأسا أن يقتضي من عمه، وقال: ليس عليه حنث، وإن علم بقضاء العلم عنه غير أن اليمين عليه في قضائه عنه كما كانت لصاحب الحق لا يقضيه حتى يسجن أياما كمن حلف وإلا حنث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن الأيمان إنما هي على المعاني فيها والمقاصد بها، فالذي حلف ألا ينظر غريمه حتى يأخذ حقه منه لا شيء عليه إن قبضه من غيره؛ لأنه إنما أراد ألا ينظره حتى يصل إليه حقه، والذي حلف ألا يقضي الحق الذي عليه حتى يسجنه فيه الطالب تلزمه اليمين لمن قضاه عنه؛ لتحول الحق الذي حلف ألا يقضيه حتى يسجن فيه إليه، ولا يحنث بعلمه بقضاء الحق عنه؛ إذ ليس له أن يمنعه من ذلك، وقال: إنه لا يقضي الحق الذي عليه لعمه الذي قضاه عنه حتى يسجن له فيه أياما ظاهره في مرة واحدة، وإنما رأى أنه يبر بذلك؛ لأنه قال في السؤال يريد بذلك أياما، وروي عن ابن القاسم في غير العتبية أنه قال: أحب إلي أن يقيم في كل مرة يوما وليلة، ثم يطلق، ثم يستعدى عليه فيسجن كذلك حتى يسجن ثلاث مرات، ولا معنى لهذا الاستحباب؛ لأنه إن كان أتى مستفتيا فله نيته، وإن كان مشهودا عليه ومخاصما، فيتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: وهو الأصح منهما أنه يبر حتى يسجن ثلاث مرات يقيم في كل منها يوما وليلة فأكثر. والثاني: أنه يبر ويسجن مرة واحدة إذا أقام فيه أياما، والأصل في هذا اختلافهم في الذي يقول: إذا حملت امرأتي فهي طالق وهي حامل، هل التمادي في الحمل كابتداء حمل وتطلق عليه أم لا تطلق عليه إلا إذا حملت حملا آخر، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف ألا يعين بطعام ولا بزيت:

وسئل مالك عن رجل حلف ألا يعين بطعام ولا بزيت، فكان زيت مقتته أترى أن يعين به؟ فقال: لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: يعني بمقتت مطيب، يريد بأشجار الأرض، لا بصريح الطيب، ومثله لمالك رَحِمَهُ اللَّهُ في المجموعة، وقال غيره فيها: إن نوى الزيت خاصة لم أبلغ به الحنث؛ لأني أكره بعضه ببعض متفاضلا، كما أكره التفاضل في السرح والزنيق، ولم ير مالك ما يقتت بأشجار الأرض يخرج من صنفه، وإنما يخرج ذلك إذا طيب بصريح الطيب كالمسك والعود وشبهه، وقول غير مالك في المجموعة: إن نوى الزيت خاصة لم أبلغ به الحنث لا معنى له؛ لأن اللفظ أقوى من النية، وهو قد لفظ بالزيت، فالجواب فيه أنه يحنث بالزيت المطيب ما لم يخرجه ما فيه من الطيب عن صنفه، حتى يجوز فيه التفاضل إلى أجل إلا أن ينوي الزيت الخالص، فلا يحنث بالمطيب على حال إذا أتى مستفتيا، والله أعلم.

.مسألة حلف بعشرين نذرا إن قبل لأبيه هبة أبدا وأبوه الذي يمونه:

وسئل عمن حلف بعشرين نذرا إن قبل لأبيه هبة أبدا، وأبوه الذي يمونه قال: هل جعل لذلك مخرجا من صيام أو حج؟ قال: لم يجعل لذلك مخرجا من صيام ولا حج، إنما كانت مسجلة، قال: يكفر عشرين يمينا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما يمونه به هبة له، فقبوله منه ذلك بعد يمينه قبول لهبته، إلا أن ينوي سوى ما يمونه به، أو يكون ليمينه بساط يدل على ذلك، فلا يحنث في استمرار مؤنته إياه، وقوله له: إنه يكفر عشرين يمينا إذا حنث، ولم يسم لنذره مخرجا، صحيح على ما في المدونة وغيرها أن من نذر نذرا، ولم يجعل له مخرجا، فكفارته كفارة يمين، وقد روي ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، من رواية عقبة بن عامر الجهني، ولم يختلف فيمن قال: علي نذر ثلاثة أو أربعة إن فعلت كذا، ولا نية له، فحنث أن عليه ثلاث كفارات أو أربعا، واختلف إذا قال: علي ثلاثة أيمان أو أربعة إن فعلت كذا وكذا، فحنث فقيل: عليه ثلاث كفارات أو أربع، وقيل: عليه كفارة واحدة، إلا أن ينوي ثلاث كفارات أو أربعا، حكاه ابن أبي زيد، عن ابن المواز.

.مسألة حلف في بيع طعام ألا يزيد في عامه هذا على ثلاثة أرادب:

وسئل عن رجل حلف في بيع طعام ألا يزيد في عامه هذا على ثلاثة أرادب وويبتين بدينار، فبعث إليه أخ له بذهب يبيعه به طعاما بعشرين دينارا، فكتب إليه أني قد بعتك بثمانية عشر دينارا، ثلاثة أرادب وويبتين لكل دينار، وبدينارين حمص وجلبان بأكثر مما يكون به سعرهما، يكون قد جعل الدينار له دينارين أو ثلاثة في رخصه، قال: أراه قد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا رخص له فيما باعه إياه من الحمص والجلبان مع الطعام في صفقة واحدة، فقد رخص له في الطعام، وزاد له في سعره على ثلاثة أرادب وويبتين فحنث، والله الموفق.

.مسألة دخل على امرأته فوجد عندها قرابة لها فعاقبها فحلفت بالمشي إلى بيت الله:

وسئل عن رجل دخل على امرأته فوجد عندها قرابة لها، فعاقبها في ذلك، وغضبت فحلفت بالمشي إلى بيت الله إن دخل عليها منهم أحد، فمات أو طلقها أترى لها أن تدخلهم عليها، فقال: أرى أن تنوى، فإن كانت إنما أرادت بذلك ألا تدخلهم وهي عنده، لم أر عليها شيئا، وقيل له: أرأيت إن لم تحضرها نية، قال: فأحب إلي أن تأخذ بالاحتياط، وألا تدخلهم عليها.
قال محمد بن رشد: إذا لم يكن لها نية، فالواجب أن ينظر إلى ما قرن يمينها من عتاب زوجها إياها، فإن كان إنما عاتبها لعصيانها إياه في أن تدخلهم بيتها، وهو يكرههم ويشنأهم، فلا حنث عليها بعد موته أو طلاقه، وإن كان إنما عاقبها لما كره لها من مخالطتها إياهم فهي حانثة إن أدخلتهم عليها بعد موته أو طلاقه، وإن لم يتحقق أحد الوجهين كان الاستحباب أن تأخذ بالاحتياط كما قال مالك.